الفتنة الطائفية تعزف على الأوتار نفسها بنغمات مختلفة طالما كان العقل غائباً.. تعلمت هذا الدرس منذ أن كنت طالباً يخطو خطواته الأولى فى طب قصر العينى، كنت لا أسأل عن ديانة صديقى هل هو مسلم أم مسيحى؟

أو يحرقنى الفضول لمعرفة لقبه هل هو مصطفى أم جرجس؟،

لم أهتم عندما أخبرنى أحد المدرسين المساعدين بأن أستاذى الرائع الجميل د. مفيد سعيد يعظ فى كنيسة البروتستانت، كنت أهتم فقط بطريقة شرحه السهلة السلسة وتعامله الراقى معنا، لم تشغلنا مثل هذه القضايا التافهة، فقد كان لدينا حلم كبير هو أن نتعلم ونستغل هذه الفترة فى الصداقة والبهجة وتنمية مواهبنا فى حضن الجامعة،

لكن للأسف تزامن دخولنا حرم كلية الطب مع سيطرة الجماعات الإسلامية عليها، وكانت صدمتى حين شاهدت الدكتور عصام العريان الذى كان مسؤولاً عن اللجنة الثقافية فى اتحاد الطلبة وكان على وشك التخرج، وهو يمزق مجلة الحائط التى كتبتها، وكانت لجنته الموقرة قد منعت معارض الفنون التشكيلية، لأنها ترسم ما فيه الروح، وسمحت فقط بمعارض الخط العربى، وألغت النشاط المسرحى وسمحت فقط بمسرحية أصحاب الأخدود!!،

أما النحت، والعياذ بالله، فقد كان رجساً من عمل الشيطان ومن سيفكر مجرد تفكير فيه فهو إلى جهنم وبئس المصير!، كانت صدمتنا كبيرة حين وجدنا أن الجامعة لم تختلف عن مدرسة الثانوى وأن طموحنا سيظل حبيس قمقم هذه الجماعات.

كانت صدمتنا الأكبر حين نفخت تلك الجماعات فى نار الفتنة ووزعوا منشوراً يهاجمون فيه استضافة أسرة طلابية فريق المصريين الغنائى، وكان السبب أن رئيس هذا الفريق الذى كان ملء السمع والبصر آنذاك هو الفنان هانى شنودة، وما أدراك ما شنودة ووقع كلمة شنودة التى وضعوا تحتها ألف خط، وصرخوا بها فى الميكروفونات، كان هذا الفريق الغنائى هو ثانى فريق غنائى يغنى الأغانى العربية بإيقاعها الجديد بعد فريق الجيتس، وبعد غياب الفرق الأجنبية التى كان يقودها ويعزف فيها إسماعيل الحكيم وعمر خيرت وأبوعوف وعمر خورشيد وغيرهم، كان الطلبة فى اشتياق لسماع ورؤية هذا الفريق الغنائى، الذى كان ثورة وقتها فى عالم الكلمة التى يكتبها صلاح جاهين واللحن الذى يضعه هانى لا مؤاخذة شنودة!!

تجمع أفراد الجماعة وقرروا الصلاة فى قاعة الكلية التى سيتم فيها الحفل، وتظاهروا وهتفوا ضد العميد هاشم فؤاد، الذى أخفى هانى شنودة وفرقته داخل الكلية، وخطب الطالب عصام العريان ومعه حلمى الجزار، أمير الجماعة وقتها، فى الطلبة محذرين من تحويل الكلية إلى كباريه يمرح فيه الصليبيون!

فشلت المفاوضات ما بين العميد وقادة الجماعة الإسلامية، واستيقظنا وقتها على كابوس التفتيش فى النوايا والأديان والأسماء، بدأ الطلبة يفرزون، ويتجنبون، ويتجمعون فى شلل تقصى صاحب الدين الآخر، وصار صديق الأمس عدو اليوم، وبدأت النميمة العقائدية والتربص الطائفى، وانتشر شبق رؤية فيديو مناظرات أديدات بين الإسلام والمسيحية وكأننا نشاهد ماتش مصارعة، وانتهت موقعة هانى شنودة بغنائه للعميد وبعض الطلبة الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة، بعد حيلة من العميد ونشر شائعة بأن هانى شنودة قد تم تسريبه من الباب الخلفى!!،

وكانت نكتة ولكنها ملهاة ممزوجة بدموع المأساة.

ما أشبه اليوم بالبارحة، تساءلت وقتها ومازلت أتساءل حتى اليوم: هل ما يدعيه الآن هذا التيار الذى حكمنا فى الجامعة وما يروج له من استنارة وتفتح، هل هو استراتيجية دائمة أم مجرد تكتيك وقتى؟!، المشكلة أن ذاكرتى لم تصب بألزهايمر بعد، ولكن ذاكرة الشعوب سرعان ما يصيبها ألزهايمر تحت تأثير الكلمات المعسولة والأمانى الكاذبة.